المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة] وهي قوله وتعالى: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125] "وما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله} يعني نفسه" فالنبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت ذلك عنه في الصحيحين وغيرهما - ذكر هذا الحديث أكثر من مرة، ورواه عنه أكثر من صحابي، ومن ذلك رواية جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس -أي بخمس ليالٍ - وهو يقول: {إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً}.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلن أنه لا خليل له من هذه الأمة، ويأتي بأقوى لفظ يدل على ذلك، ولم يقل: (ليس لي منكم خليل) بل قال: {إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل} وهذا فيه كمال النفي واستكمال العدم وتأكيد الضد وهو أن خلته خاصة بربه سبحانه وتعالى أو هي بينه وبين ربه تعالى، ثم قال: {ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، أو: لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؛ ليبين أمراً آخر وهو: أن أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كما في الحديث المتفق عليه لما سأله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: {يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: ومن الرجال؟ قال أبوها} فهو يحب صلى الله عليه وسلم، وأحب الصحابة إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليس خليلاً له، بل هو أخ له في الإسلام، وحبيب له وصاحب كما ذكر الله تعالى في القرآن: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ))[التوبة:40].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى عن ابن عباس: {ولكن أخي وصاحبي} وفي رواية أخرى قال: {ولكن أخوة الإسلام ومودته}، وفي هذا إشارة عظيمة إلى منزلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وإلى أحقية أن يستخلفه المسلمون على القول الراجح الذي سوف نتعرض له فيما بعد إن شاء الله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ينفي في هذه الأحاديث الصحيحة أن يكون له خليل إلا الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك دليل على كمال رتبته صلى الله عليه وسلم، وعلو مقامه في عبادة الله سبحانه وتعالى، فإنه حقق كمال العبودية حتى وصل به الحال إلى أن يكون خليلاً للرحمن سبحانه وتعالى، فهذه الدرجة درجة عليا عظيمة لا يبلغها أحد، وإنما هي للخليلين اللذين وصلا إلى هذه الدرجة العظيمة بحيث أنه لا خليل لهما إلا الرحمن سبحانه وتعالى، ونستنتج من ذلك الرد على الذين يرون أنه يمكن للعبد -بالحب أو بالعشق كما يسمونه- أن يصل إلى أعلى الدرجات، ويركبون على ذلك ضلالات لا نهاية لها، منها: أنه قد تسقط عنه التكاليف كما يقولون -ويا خيبة قولهم- ويستدلون بقوله تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] على أن الإنسان منهم إذا كملت عبادته -التي هي عندهم المحبة فقط- يصل إلى درجة اليقين، وبذلك تسقط عنه العبادات، فلا تكليف عليه فلا يصلي ولا يصوم! ويقولون: الغرض من الصلاة والصيام تهذيب العامة والارتفاع بهم، لكن من وصل إلى درجة اليقين، فما الحاجة إلى أن يصلي ويصوم؟! نسأل الله العفو والعافية.
ويقال لهم: إذا كانت العبادات لم تسقط عن الخليلين، فكيف تسقط عن هؤلاء؟! فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت، دَافَع نفسه وذهب يصلي الجماعة في المسجد، مستنداً إلى رجلين، فإن كانت العبادات قد سقطت عنه، فلم هذا الإجهاد منه لنفسه صلى الله عليه وسلم؟! وقولهم هذا دليل زندقتهم وإلحادهم وخروجهم عن دين الإسلام، وكل من يقول بهذا القول خارج عن ملة محمد صلى الله عليه وسلم وعن ملة إبراهيم عليه السلام، واليقين الذي ذكره الله تعالى في قوله: ((حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99]: هو الموت فعلينا أن نعبد الله حتى نموت ونلقاه تعالى.
قال رحمه الله: "فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق " أي: لو أمكن أن يكون له خليل لكان صاحبه الذي في الغار، وذلك الرجل الذي وصف بأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل الوحي عليه قالت له السيدة الفاضلة خديجة رضي الله تعالى عنها: {والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتقري الضيف، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق} ونفس هذا الوصف اتصف به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لما أخرج الصديق وطرد ولم يجد من يلتجئ بجواره إلا ابن الدغنة، فقال له ابن الدغنة: (لا يليق بمثلك أن يخرج وأن يطرد، إنك لتقري الضيف...) ثم ذكر الأوصاف السابقة، فسبحان الله كيف اتفقا في هذه الصفات!
ومن هنا كان الصديق رضي الله تعالى عنه بهذه المنزلة العظيمة، فأوصاف النبوة وصفاتها وخلالها كان أقرب الناس إليها هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فهو أفضل البشر بعد الأنبياء رضي الله تعالى عنه، وله من الفضائل الكثيرة مما سنذكره -إن شاء الله تعالى عنه- عند الحديث عن الصحابة والخلافة.
والمقصود من هذا إثبات فضله رضي الله تعالى عنه مع أنه لم يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لتبقى خلته خاصة بالله عز وجل وحده.
  1. صفة المحبة أعم من صفة الخلة

  2. الخلة أعلى درجة من المحبة

  3. امتحان إبراهيم عليه السلام في صدق الخلة